دوافع الهجرة:
أدركت قريش أنَّها لا تستطيع أن تصرف محمَّداً عن دعوته، وأن تحول بين النّاس وبينها، وذلك بالرغم مما اتخذته من وسائل الإرهاب والتعذيب والترغيب، فالنّاس في إقبال مستمر عليها، والمسلمون يزدادون قـوّة وتمسكـاً بها، ولـم تيأس قريش من مقارعة النبيّ (ص)، ولكن اعتداءاتها عليه كانت محدودة لا تتجاوز السباب والسخرية وإلقاء القاذورات والأوساخ عليه أحياناً، ولـم تتماد قريش في الاعتداء عليه كما كان يحصل لأصحابه، خوفاً من أبي طالب وأسرته، وبخاصة بعد أن أعلن الحمزة إسلامه.
وفي الحديث عن الاضطهاد والعذاب الذي لحق بأصحاب النبيّ (ص)، أدرك (ص) بعد سنتين من الجهر بالدعوة، أن لا قدرة للمسلمين على الصبر على البلاء الذي ينـزل بهم ليل نهار، فأشار عليهم بالهجرة إلى الحبشة، "فإنَّ بها ملكاً لا يظلم عنده أحد حتى يجعل اللّه لهم فرجاً مما هم فيه"، فاستجاب له المسلمون، وتسلل عددٌ منهم من مكة صوب الساحل، كي تقلهم سفينتان كانتا متجهتين صوب الجنوب.
كان من بين أولئك المهاجرين الزبير بن العوام، مصعب بن عمير، عبد الرحمن بن عوف، أبو سيرة بن أبي رهم وسهيل بن بيضاء، وكان ممن هاجروا ومعهم نساؤهم، عثمان بن عفان، أبو خدية بن عتبة، عامر بن ربيعة، وقد أمّر عليهم جميعاً عثمان بن مظعون، ثُمَّ خرج جعفر بن أبي طالب، وتتابع المهاجرون منفردين أو مع أهلهم، حتّى اجتمعوا بأرض الحبشة بضعة وثمانين مهاجراً عدا أبناءهم الصغار الذين خرجوا معهم أو ولدوا هناك.
وخشيت قريش أن يوجه المسلمون نشاطهم إلى تلك البلاد، فينشروا الإسلام فيها، ويصبح قوّة لا طاقة لهم به، وخصوصاً أنها تعرف أنَّ للإسلام قوّته وتأثيره على النفوس، فخرجت تغذُّ السير لتردّهم إلى مكة، ولكنَّهم كانوا قد انطلقوا آمنين من شواطئ جدّة قبل وصولهم إليها.
كان اختيار الحبشة خطوةً موفَّقة من قبل الرسول(ص)، ولعلّ السبب في ذلك يعود إلى ما روي عن عدل ملكها وعدم ظلمه لأحد، وإلى طبيعة العلاقة بين النصرانية والإسلام، والأمل بوجود مجال للدعوة في الحبشة، وما دفع بهذه العلاقة لأن تمضي قدماً، حادثة انتصار الأحباش لنصارى اليمن التي كانت حاضرة في أذهان العرب، ما جعل هذا التحالف قوياً في مواجهة الأحلاف الوثنية، كما أنَّ اختيار منطقة كاليمن أو يثرب سوف يعرّض المهاجرين لبطش العناصر الوثنية، خاصة إذا ما علمنا أنَّ قريشاً كانت زعيمة الأحلاف، حيث كانت معظم القبائل تدور في فلكها، وفضلاً عن ذلك، فهي تمسك من الناحية الدينية بالكعبة، ما يجعل الهجرة إلى أيّ من هذه المناطق ينطوي على مخاطر كبيرة.
أمّا عن الانتماء القبلي للمهاجرين، فإلقاء نظرة خاطفة عليه يبيّن لنا سعة الدائرة البشرية التي امتدّت إليها الدعوة الإسلامية، ويحكي لنا تجاوز الحالة العصبية، فكان هؤلاء ينتمون إلى مختلف القبائل: بني هاشم، عبد بن قصي، نوفل، عبد شمس، تيم، أسد بن عبد العزي، عدي، أميّة، زهرة، عبد الدار، مخزوم، عامر، الحارث بن فهد، جمح.
ولا يُخفى أيضاً ما كان للمرأة من دور في الهجرة تحمّلت خلالها أعباء الاضطهاد، جنباً إلى جنب مع الرّجل في سبيل الهدف الذي آمنت به.
واللافت أنَّ معظم المهاجرين كانوا من أبناء الأسر العريقة دون الأرقاء والفقراء والمساكين والغرباء، ولعلّ ذلك يعود إلى قوّة الضغط الذي كانت تمارسه قريش على أبنائها، لأنها كانت ترى فيهم خطراً على مستقبلها لـم تجده في الفقراء والمساكين، وهذا الأمر ينقض ما ألفه الناس من أن أتباع الرسول الأوائل كانوا من الفقراء والمساكين فقط.
قريش تفشل في استرجاع المهاجرين:
وعندما رأت قريش أنَّ أصحاب الرسول (ص) قد اطمأنوا واستقروا في الحبشة، رأت أن تُفسد عليهم مسعاهم وتعيدهم إلى مكة، ولذا ارتأت أن ترسل رجلين قديرين إلى النجاشي.وكان الموفدان هما: عمرو بن العاص، وعبد اللّه بن أبي ربيعة، وحملا معهما الهدايا للنجاشي وبطارقته. وبدآ بالبطارقة، فسلما كلاًّ هدية وقالا له: "إنَّه قد لجأ إلى بلد الملك منّا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم ولـم يدخلوا في دينكم، وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم، وقد بعثنا إلى الملك فيهم أشراف قومهم ليردوهم إليهم، فإذا كلّمنا الملك فيهم فأشيروا عليه بأن يسلمهم إلينا ولا يكلّمهم، فإنَّ قومهم أعلم بما عابوا عليهم"، فوافق البطارقة على ذلك.
حبك القرشيان الموفدان الخطّة بإحكام، واستطاعا أن يستميلا البطارقة إلى جانبهما، وأقنعوهم بضرورة تسليمهم دون الاستماع إلى أقوال المهاجرين، خاصة وأنهم قد أشاروا إلى أنَّهم لـم يلحقوا بدين الملك، معززين خطّتهم هذه بأنهم فارقوا دين الآباء، ولم يدخلوا في دين الملك.
ولكن الهدايا التي سلّمها الموفدان للبطارقة لـم تؤتِ ثمارها عند الملك عندما عرضا عليه تسليم المهاجرين، وحضّه البطارقة على ذلك، ما أثار غضب النجاشي ورفض تسليمهم بقوله: "لا واللّه، إذاً لا أسلّمهم إليهما، ولا يكاد قوم جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني على من سواي، حتى أدعوهم فأسألهم عمّا يقول هذان في أمرهم، فإن كانوا كما يقولون أسلّمهم إليهما، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهما وأحسنت جوارهم ما جاوروني".
ولـم يلبث النجاشي أن دعا المهاجرين لحضور مجلسه، وسألهم عن طبيعة الدين الجديد، فتقدّم جعفر بن أبي طالب وقال: "أيُّها الملك، كنّا قوماً أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منّا الضعيف، فكنّا على ذلك حتى بعث اللّه إلينا رسولاً منّا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى اللّه لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنّا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكفّ عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد اللّه وحده ولا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام... فصدقناه وآمنا به، واتبعناه على ما جاء به من اللّه. فعدا علينا قومنا، فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة اللّه تعالى. فلما قهرونا وظلمونا وضيَّقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك واخترناك على من سواك، ورجونا أن لا نُظلم عندك أيُّها الملك". فطلب منه النجاشي أن يقرأ عليه شيئاً مما جاء به الرسول (ص) عن اللّه، فتلا عليه جزءاً من سورة مريـم، فبكى النجاشي حتى اخضلّت لحيته، وبكى أساقفته كذلك، وقال: "إنَّ هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة، انطلقا، فلا واللّه لا أسلّمهم إليكما".
لـم ييأس عمرو بن العاص، وعاد إلى النجاشي في اليوم التالي، وقال له: إنَّهم يقولون في عيسى بن مريـم قولاً عظيماً، فأرسل إليهم فسلهم عمّا يقولون فيه، فاستدعاهم وسألهم، فأجابه جعفر: "نقول فيه الذي جاء به نبيّنا، هو عبد اللّه ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريـم العذراء البتول"، فتناول النجاشي عوداً وقال: "واللّه ما عدا عيسى ابن مريـم مما قلت هذا العود"، فأبدى بطارقته استياءهم، فردّهم وأعلن عن حمايته للمهاجرين وقال لمن حوله:"ردّوا عليهما هداياهما فلا حاجة لي بها، فغادر عمرو ورفيقه أرض الحبشة عائدين إلى مكة" خاليا الوفاض.
المهاجرون في ديارهم:
وبعد شهرين من إقامتهم، وردت الأنباء إلى الحبشة، تُفيد أنَّ أهل مكة قد اعتنقوا الإسلام، فقفل بضع وثلاثون رجلاً منهم عائدين إلى بلادهم، وما إن اقتربوا منها، حتّى تبيّن لهم كذب هذه الأنباء، فتسلل بعضهم متخفياً إلى مكة، ودخل آخرون بجوار بعض المشركين، ورجعت فئة ثالثة من حيث أتت، وبقي معظم المهاجرين في أرض الحبشة حتّى السنة السادسة للهجرة بعد أن عقد الرسول (ص) مع قريش صلح الحديبية، وبعث إلى النجاشي عمراً بن أميّة الضمري يطلب إعادة المهاجرين إلى بلادهم في سفينتين، وقدم بـهم على الرسول (ص) في أعقاب فتح خيبر في مطلع السنة السابعة، وقد فرح بهم الرسول (ص) فرحاً عظيماً، وخاصة جعفر بن أبي طالب، واحتضنه، وقد عبّر عن ذلك بقوله: "ما أدري بأيِّهما أنا أسرّ؛ بفتح خيبر أم بقدوم جعفر"؟ وكان عدد الذين رجعوا من الحبشة قريباً من العشرين رجلاً مع عدد من النساء والأطفال الذين ولدوا هناك، فضلاً عن بعض الأرامل اللواتي توفي أزواجهن أيام الإقامة في الحبشة، وكان بعض المهاجرين قد غادر الحبشة في بداية عهد المسلمين بالهجرة إلى المدينة، فمات بعضهم في مكة، واعتقل البعض الآخر، وتمكنت فئة ثالثة من اللحاق بالمدينة والاشتراك في معركة بدر وما تلاها من وقائع.