الكلام عن النميمة يتناول عدة أمور هي :
1- تعريفها: هي نقل الكلام
بين طرفين لغرض الإِفساد. يقول الغزالي " الإحياء ج 3 ص 135 ": تطلق
النميمة في الأكثر على من ينم قول الغير إلى المقول فيه، كما تقول : فلان
كان يتكلم فيك بكذا وكذا، وتعرَّف النميمة أيضا بكشف ما يكره كشفه سواء
كرهه المنقول عنه أو المنقول إليه أو كرهه طرف ثالث وسواء كان الكشف بالقول
أو الكتابة أو الرمز والإِيماء، فالنميمة إفشاء السر وكشف الستر عما يكره
كشفه، وجاء في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر على قبرين
يعذَّبان فوضع عليهما جريدة وقال إنهما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا
يستبرئ من بوله، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة بين الناس.
يقول
ابن القيم: أول ما يحاسب عليه العبد الصلاة والدماء، فمن ترك الاستبراء
الذي هو مقدمة الصلاة، ومن نَمَّ والنميمة أصل العداوة المريقة للدماء،
فحظهما العذاب الشديد " غذاء الألباب ج 1 ص 91 " ويقول الشاعر :
لي حيلة فيمن ينم وليس للكذاب حيلة * من كان يخلق ما يقول فحيلتي فيه قليلة
2 -مظاهرها: تكون النميمة بين الحبيبين وبين الزوجين،وبين الأسرتين، وبين الدولتين، وبين الرئيس والمرءوسين.
3-
آثارها:التفرقة بين الناس، قلق القلب، عار للناقل والسامع، حاملة على
التجسس لمعرفة أخبار الناس، حاملة على القتل، وعلى قطع أرزاق الناس، جاء في
الحديث " لا يبلغني أحد منكم عن أصحابي شيئا، فأنا أحب أن أخرج إليهم وأنا
سليم الصدر".
4 -صفات النمام : النمام ذليل، جاء في إحياء علوم
الدين "ج 3 ص35 " أن رجلا سأل حكيما عن السماء وما أثقل منها؟ فقال :
البهتان على البرىء، وعن الأرض وما أوسع منها؟ فقال : الحق، وعن الصخر وما
أقسى منه؟ فقال : قلب الكافر وعن النار و أحَرَّ منها؟ فقال : الحسد، وعن
الزمهرير وما أبرد منه؟ فقال : الحاجة إلى القريب إذا لم تنجح. وعن البحر
وما أغنى منه؟ فقال : القلب القانع، وعن اليتيم وما أذل منه؟ فقال : النمام
إذا بان أمره، النمام كذاب، غشاش، مغتاب، خائن للسر، غادر للعهد، غال
حسود، منافق، مفسد يحب الشر للناس، الصدق لا يذم من أحد إلا من النمام، ذو
وجهين، متجسس، فاسق.
5 -أسبابها والغرض منها : إرادة السوء للمحكي عنه،وحب المحكي إليه والتزلف إليه، والتسلية والفضول.
6- عقابها : جاء في الحديث " لا يدخل الجنة نمَّام "رواه البخاري ومسلم،
عذابه في القبر كما مر في الحديث، حبسه في جهنم حتى يأتي بالدليل على ما
قاله، وقد مر في موضوع الغيبة، هو ذو وجهين من أشد الناس عذابا يوم القيامة
كما في البخاري وقال تعالى{يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو
معهم} النساء : 108
وفى حديث أحمد " شرار عباد الله المشاءون
بالنميمة المفرِّقون بين الأحبة الباغون للبرآء العيب " وفى حديث أبى داود "
من كان له وجهان في الدنيا كان له لسانان من نار يوم القيامة" النميمة
تحلق الدين لأنها تفسد ذات البين، كما في حديث أبى داود والترمذي وصححه،
وجاء في حديث الطبراني أنه قيل لعبد الله بن عمر: إنا ندخل على أمرائنا
فنقول القول، فإذا خرجنا قلنا غيره، فقال : كنا نعد ذلك نفاقا على عهد رسول
الله - صلى الله عليه وسلم -.
ليس له قيمة أدبية كما قال الله في
الوليد أو غيره {ولا تطع كل حلاف مهين. هماز مشاء بنميم} القلم : 10، 11
النمام شؤم لا تنزل الرحمة على قوم هو فيهم، فقد جاء في الإحياء "ج 3 ص 35"
عن كعب الأحبار أن بنى إسرائيل أصيبوا بقحط، فاستسقى موسى - عليه السلام -
مرات، فما سقاهم الله، فأوحى إليه أن السبب هو وجود نمَّام معكم، فقال
موسى:ومن هو يا رب حتى أخرجه؟ فقال:يا موسى أنهاكم عن النميمة وأكون نماما.
والله أعلم بصحة هذا الخبر.
7-علاج النميمة :
يكون بتوعية النمام بخطورة النميمة، بمثل ما سبق من الآيات والأحاديث
والحكم، والتنفير منها بأنها صفة امرأة لوط،التي كانت تدل الفاسقين على
الفجور، فعذبها اللّه كما عذبهم، وأنها صفة العتاة من المشركين كالوليد بن
المغيرة الذي نهى الله نبيه عن طاعته، إلى غير ذلك من المنفرات لهذا
المنكر، وحثه على التوبة منها قبل أن يقضى عليه.
وكذلك يكون علاجها
من جهة السامع للنميمة، ببيان أنه أُذنٌ لا شخصية له، يقع فريسة لكل كلام
ينقل إليه، وبيان أنه عدو للناس بسبب كلمة يسمعها، فيوقع عليهم الشر، أو
يمنعهم الخير، وإظهار أنه كما يُنَمُّ له يُنَمَّ عليه، فالذي نقل إليه
الكلام سينقل عنه الكلام، وأنه يحمل وزرا مع النمام لأنه يشجعه على ذلك.
واجب
السامع عدم تصديق النميمة لأن النمام فاسق والفاسق مردود الشهادة، قال -
تعالى -{يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما
بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين} الحجرات : 6 .
كذلك يجب عليه
أن ينصحه قياما بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وأن يبغضه لوجه الله
لأنه مبغوض من اللّه والناس، وألا يظن سوءا بمن نقل عنه الكلام، فالله يقول
{يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم} الحجرات :
12 وألا يحمله الكلام المنقول إليه على التجسس والبحث فالله قد نهى عن
التجسس، وألا يحكى هذه النميمة حتى لا يكون نماما.
روى عن عمر بن
عبد العزيز أنه دخل عليه رجل ذكر له شيئا عن رجل آخر، فقال له عمر: إن شئت
نظرنا في أمرك فإن كنت كاذبا فأنت من أهل هذه الآية : {إن جاءكم فاسق بنبأ
فتبينوا} وإن كنت صادقا فأنت من أهل هذه الآية {هماز مشاء بنميم} وإن شئت
عفونا عنك، فقال العفو يا أمير المؤمنين ولا أعود لذلك أبدا. وقال رجل لعبد
الله بن عامر، وكان أميرا، بلغني أن فلانا أعلم الأمير أنى ذكرته بسوء،
قال : قد كان ذلك، قال : فأخبرني بما قال لك حتى أظهر كذبه عندك، قال : ما
أحب أن أشتم نفسي بلساني، وحسبي أني لم أصدقه فيما قال، وقال مصعب بن
الزبير: نحن نرى أن قبول السعاية شر من السعاية، لأن السعاية دلالة،
والقبول إجازة، وليس من دل على شيء فأخبر به كمن قبله وأجازه، فاتقوا
الساعي، فلو كان صادقا في قوله لكان لئيما في صدقه، حيث لم يحفظ الحرمة ولم
يستر العورة. والسعاية هي النميمة، إلا أنها إذا كانت إلى من يخاف جانبه
سميت سعاية.
دخل رجل على سليمان بن عبد الملك الأمير الأموي، فقال
له: إني مكلمك كلاما فاحتمله وإن كرهته، فإن وراءه ما تحب إن قبلته، فأذن
له في الكلام فقال : إنه قد أحاط بك رجال ابتاعوا دنياك بدينهم، ورضاك بسخط
ربهم، خافوك في الله، ولم يخافوا الله فيك، فلا تأمنهم على ما ائتمنك الله
عليه، ولا تُصغ إليهم فيما استحفظك اللّه إياه...أعلى قُرَبِهِمْ البغي
والنميمة، وأجل وسائلهم الغيبة والوقيعة، وأنت مسئول عما أجرموا، وليسوا
مسئولين عما أجرمت، فلا تصلح دنياهم بفساد آخرتك، فإن أعظم الناس غبنا من
باع آخرته بدنيا غيره.
ورفع بعض النمامين إلى الصاحب بن عباد رقعة
نبه فيها على مال يتيم، ويحمله على أخذه لكثرته، فكتب على ظهر الرقعة :
السعاية قبيحة وإن كانت صحيحة، ابتعد عن العيب فالله أعلم بالغيب، الميت -
رحمه الله -، واليتيم جبره الله، والمال ثمرة الله، والساعي لعنه الله.
المقالة الثانية
فاكهة المجالس
دار الوطن
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، أما بعد:
فعادات
سيئة وأخلاق ذميمة انتشرت بين قطاع عريض من الناس، ولعلَّ من أخطرها عادة
أصبحت أساسية في كل مجلس لا يستغني عنها أصحابها – إلا من رحم الله – رغم
أنها عادة ذميمة وعمل لئيم، وجريمة أخلاقية منكرة، لا يحسنها إلا الضعفاء
والجبناء، ولا يستطيعها إلا الأراذل والتافهون، ولا ينتشر هذا العمل إلا
حين يغيب الإيمان، وهي اعتداء صارخ على الأعراض، وظلم فادح وإيذاء ترفضه
العقول، وتمجه الطباع وتأباه النفوس الكريمة، وهي كبيرة من كبائر الذنوب،
ولقد جاء وصفها في كتاب الله تعالى بأبشع الصفات، قال تعالى: ( يَاأَيُّهَا
الَّذِينَ ءَامَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ
الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا
أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا
فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ )
[الحجرات:12].
ولعظم أمرها فقد جاء الوعيد الشديد في حق مرتكبها،
قال صلى الله عليه وسلم: { لما عُرج بي إلى السماء مررت بقوم لهم أظفار من
نحاس يخمشون بها وجوههم وصدورهم، فقلت: مَنْ هؤلاء يا جبريل؟! قال: هؤلاء
الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم }.
ولعلك أخي القارئ
عرفت ما هي هذه العادة الذميمة والعمل اللئيم، إنها الغيبة التي قال عنها
ابن حجر الهيثمي: "إن فيها أعظم العذاب وأشد النكال، وقد صح فيها أنها أربى
الربا، وأنها لو مزجت في ماء البحر لأنتنته وغيَّرت ريحه، وأن أهلها
يأكلون الجيف في النار، وأن لهم رائحة منتنة فيها، وأنهم يعذبون في قبورهم.
وبعض هذه كافية في كون الغيبة من الكبائر".
والغيبة بضاعة كاسدة
وسلعة رخيصة لا يسعى لها ولا يحافظ عليها إلا ضعاف الإيمان، وهي في الوقت
نفسه تجارة خاسرة للمغتاب حيث إنه يخسر كثيراً من حسناته، ويكسب كثيراً من
الذنوب والسيئات.
وبعض الناس مع الأسف الشديد لا تراه دائماً إلا
منتقداً، وينسى صفات الآخرين الحسنة، ويركز على أخطائهم وعيوبهم فقط، فهو
مثل الذباب يترك موضع البرء والسلامة ويقع على الجرح والأذى، وهذا من رداءة
النفوس وفساد المزاج.
والغيبة هي كما بيَّنها رسول الله قال صلى
الله عليه وسلم بقوله: { أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال:
هي ذكرك أخاك بما يكره، قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان
فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته } [رواه مسلم
وأحمد وأبو داود والترمذي].
وهي حرام لقوله قال صلى الله عليه وسلم: { كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه } [رواه مسلم].
والغيبة
تكون في القول، والإشارة والإيماء والغمز واللمز، والكتابة والحركة، وكل
ما يفهم المقصود فهو داخل في الغيبة. تقول عائشة رضي الله عنها: { دخلت
علينا امرأة فلما ولَّت أومأت بيدي أنها قصيرة، فقال رسول الله قال صلى
الله عليه وسلم: "اغتبتيها" }.
بواعث الغيبة
يقول ابن تيمية رحمه الله في بواعث الغيبة:
1-
إن الإنسان قد يغتاب موافقة لجلسائه وأصحابه مع علمه أن المغتاب بريء مما
يقولون أو فيه بعض ما يقولون، لكن يرى أنه لو أنكر عليهم لقطع المجلس
واستثقله أهل المجلس.
2- ومنهم من يخرج الغيبة في قالب ديانة وصلاح
ويقول: ليس لي عادة أن أذكر أحداً إلا بخير، ولا أحب الغيبة والكذب، وإنما
أخبركم بأحواله، والله إنه مسكين، ورجل جيد، ولكن فيه كذا وكذا، وربما
يقول: دعونا منه، الله يغفر لنا وله، وقصده من ذلك استنقاصه.
3- ومنهم من يخرج الغيبة في قالب سخرية ولعب ليضحك غيره بمحاكاته واستصغاره المستهزأ به.
4- ومنهم من يخرج الغيبة في قالب تعجب فيقول: تعجبت من فلان كيف لا يفعل كيت وكيت، ومن فلان كيف فعل كيت وكيت.
5-
ومنهم من يخرج الغيبة في قالب الاغتمام، فيقول: مسكين فلان غمَّني ما جرى
له وما تم له، فيظن من يسمعه أنه يغتم له ويتأسف، وقلبه منطوٍ على التشفي
به.
6- ومنه من يظهر الغيبة في قالب غضب وإنكار منكر وقصده غير ما أظهر.
خطورة الغيبة
إن
هذا الأمر على خطورته في الدنيا والآخرة لم يأبه به كثير من الناس،
وتهاونوا في أمره تهاوناً عظيماً، بل اعتبروه فاكهة مجالسهم، فإنك لا تكاد
تجلس في مجلس إلا وهذا الوباء موجود فيه. وسبب انتشاره هو عدم إدراك
خطورته. فانظر – يا رعاك الله– إلى هذه النصوص الكريمة ليتبين لك شناعة
الغيبة وخطورتها:
عن عائشة رضي الله عنها قالت: { قلت: يا رسول
الله، حسبك من صفية أنها قصيرة، فقال قال صلى الله عليه وسلم: "لقد قلت
كلمةً لو مُزجت بماء البحر لمزجته" }.
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن
جده، { أنهم ذكروا عند رسول الله قال صلى الله عليه وسلم رجلاً، فقالوا:
لا يأكل حتى يطعم، ولا يرحل حتى يُرحل له، فقال النبي قال صلى الله عليه
وسلم: "اغتبتموه" فقالوا: يا رسول الله، حدثنا بما فيه، قال: "حسبك إذا
ذكرت أخاك بما فيه" }.
وروى أبو هريرة قال صلى الله عليه وسلم { أن
رجلاً اعترف بالزنا أمام رسول الله قال صلى الله عليه وسلم أربع مرات،
فأقام عليه الحد، فسمع الرسول قال صلى الله عليه وسلم رجلين من الأنصار
يقول أحدهما لصاحبه: انظر إلى هذا الذي ستر الله عليه، فلم يدع نفسه حتى
رُجم رجم الكلب، قال: فسكت رسول الله قال صلى الله عليه وسلم. ثم سار ساعة
فمرَّ بجيفة حمار شائل برجله - أي قد انتفخ بطنه - فقال عليه الصلاة
والسلام: "أين فلان وفلان؟" فقالا: ها نحن يا رسول الله، فقال لهما: "كُلا
من جيفة هذا الحمار" فقالا: يا رسول الله، غفر الله لك، مَنْ يأكل من هذا؟ !
فقال رسول الله قال صلى الله عليه وسلم: فما نلتما من أخيكما آنفاً أشد من
أكل هذه الجيفة، فوا الذي نفسي بيده، إنه الآن في أنهار الجنة ينغمس فيها"
} [رواه أحمد وصححه الألباني].
وروى أنس رضي الله عنه قال: { كانت
العرب يخدم بعضها بعضاً في الأسفار، وكان مع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما
رجل يخدمهما، فاستيقظا مرة ولم يهيئ لهما طعاماً، فقال أحدهما لصاحبه: إن
هذا ليوائم نوم بيتكم فأيقظاه، فقالا: ائت رسول الله قال صلى الله عليه
وسلم فقل: إن أبا بكر وعمر يقرئانك السلام وهما يستأدمانك، فذهب وأخبر
الرسول قال صلى الله عليه وسلم، فقال الرسول قال صلى الله عليه وسلم: "قد
ائتدما"، فجاء الغلام وأخبرهما، ففزعا وجاءا إلى رسول الله فقالا: يا رسول
الله، بعثنا إليك نستأدمك فقلت: قد ائتدمتما، بأي شيء ائتدمنا. قال عليه
الصلاة والسلام: "بلحم أخيكما، والذي نفسي بيده إني لأرى لحمه بين
أنيابكما"، قالا: استغفر لنا يا رسول الله، قال: "هو بل يستغفر لكما" }.
فانظر
أخي الكريم ما هي الكلمة التي قالاها، كلمة واحدة. قالا: إن هذا ليوائم
نوم بيتكم، أي إن هذا النوم يشبه نوم البيت لا نوم السفر، عاتبوه بكثرة
النوم فقط فعاتبهما رسول الله.
إن كثيراً من الناس يهولون أمر
الربا ويستعظمون أمره - وهو كذلك – ويتساهلون بما هو أعظم منه وهي الغيبة.
قال رسول الله: { إن أربى الربا استطالة المسلم عرض أخيه المسلم }.
أخي
الكريم: إن الغيبة هي أن تذكر أخاك بما يكرهه لو بلغه ذلك، سواء ذكرته
بنقص في دينه أو في بدنه أو في نسبه أو في خلقه أو في فعله أو في قوله، حتى
في ثوبه ونحو ذلك.
فأما البدن: فكذكر العمش والحول والقصر
والسواد، وجميع ما تعلم أنه يكرهه من الصفات إلا أن يكون معروفاً بصفة من
هذه الصفات ولا يميز إلا بها وهو لا يكرهها، فلا بأس بذلك.
وأما النسب: فكقولك: أبوه هندي، أو فاسق أو زبال أو أي شيء تعرف أنه يكرهه، أو انتقاصه في حسبه ونسبه.
وأما الخُلُق: فكقولك: هو سيئ الخلق، بخيل متكبر، شديد الغضب، متهور، متسرع وما شابه ذلك.
وأما
في أفعاله المتعلقة بالدين: فكقولك: هو كذاب،أو خائن، أو شارب خمر، أو
ظالم،أو متهاون بالصلاة، أو لا يحسن الركوع والسجود، أو ليس بارًّا
بوالديه، أو لا يحفظ لسانه من الكذب والشتم والسب ونحو ذلك.
وأما
فعله المتعلق بالدنيا: فكقولك: إنه قليل الأدب، متهاون بالناس ولا يحترمهم،
ولا يرى لأحد على نفسه حقًّا، أو يرى لنفسه الحق على الناس، أو إنه كثير
الكلام، وكثير النوم في غير وقت النوم.
وأما في ثوبه: فكقولك: إن ثوبه طويل، أو وسخ الثياب، أو رديء الملابس. وقس على ذلك باقي الأمور الأخرى.
إن
بعض الناس قد يغتاب شخصاً فإذا قيل له: اتق الله ولا تتكلم في أعراض
المسلمين. أجاب بقوله: أنا مستعد أن أقول ذلك أمامه، أو أن فلاناً لا يغضب
مما أقول. فما يدريك يا أخي أنه لا يغضب، فلعله يجامل عندك ولكن في قرارة
نفسه يتألم كثيراً من ذلك القول ويكرهه.
أخي الحبيب إن حديثك تنساه
بمجرد إطلاق الكلمة وانتهاء المجلس، ولكنه محص عليك، وأنت موقوف يوم
القيامة حتى يقتص منك، فيؤخذ لمن اغتبتهم من حسناتك، فإن فنيت حسناتك، أُخذ
من سيئاتهم فحطَّت عليك!!. وما أشدها من مصيبة أن تفجع في ذلك اليوم
العظيم بمثل هذا وأنت أحوج ما تكون للحسنة الواحدة.
وكما أنك أيضاً
لا تقبل أن يكون عرضك حديث المجالس فكذلك الناس لا يقبلون ذلك لأنفسهم،
فطهر لسانك وطهر مجلسك من الغيبة، ولا تسمح لأي شخص أن يغتاب أحداً عندك في
مجلسك، ولو تكلم أحد فأسكته وبيّن له حرمة ذلك، ودافع عن أعراض إخوانك
المسلمين إذا اغتابهم أحد عندك، فإن في ذلك أجرًا عظيماً كما قال قال صلى
الله عليه وسلم: { من ردَّ عن عرض أخيه المسلم كان حقّاً على الله عز وجل
أن يرد عنه نار جهنم يوم القيامة } [رواه أحمد والترمذي].
واعلم
أخي الكريم أن المغتاب لو لم يجد أذناً صاغية لما اغتاب واسترسل في الحديث،
فأنت باستماعك الحديث وعدم إنكارك عليه تكون مشجعاً على المعصية، وإذا لم
تنكر عليه ولم تترك المجلس إذا لم يرتدع وينتهي عن الغيبة فإنك تكون شريكاً
في الإثم.
وأخيراً: فإن الغيبة كما تبين آنفاً أمرها خطير
والاحتراز منها صعب جدًّا إلا لمن وفقه الله وأعانه على ذلك، وجاهد نفسه في
الاحتراز منها.
لذا فينبغي على المسلم أن يجاهد نفسه على تجنبها
والابتعاد عنها، وليحاول أيضاً أن يعفو ويصفح عن كل من اغتابه وتكلم فيه،
فإن في ذلك أجراً عظيماً، قال تعالى: ( وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ
مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ َلا
يُحِب ُّالظَّالِمِينَ ) [الشورى:40]. ولعل ذلك أيضاً يكون سبباً في أن
يسخر الله له قلبَ كل من اغتابه هو فيعفو عنه ويسامحه جزاء ما فعل هو مع
غيره، ولن يخسر الإنسان شيئاً إذا عفى وسامح، بل إنه سيتضاعف له الأجر بهذا
العفو، ولقد عرف الصحابة رضوان الله عليهم ذلك فسارعوا إلى اغتنام مثل هذه
الأجور فعفوا وسامحوا وصفت قلوبهم، ومن ذلك ما روي عن رسول الله قال صلى
الله عليه وسلم أنه حث يوماً على الصدقة، فقام علبة بن زيد، فقال: ما عندي
إلا عرضي فإني أشهدك يا رسول الله أني تصدقت بعرضي على من ظلمني، ثم جلس،
فقال رسول الله قال صلى الله عليه وسلم بعد ذلك: أين عُلبة بن زيد؟ قالها
مرتين أو ثلاثاً. فقام علبة، فقال له رسول الله قال صلى الله عليه وسلم:
"أنت المتصدق بعرضك قد قبل الله منك".
ويقول ابن القيم في مدارج
السالكين: والجود عشر مراتب، ثم ذكرها فقال: والسابعة الجود بالعرض، كجود
أبي ضمضم من الصحابة، كان إذا أصبح قال: اللهم لا مال لي أتصدق به على
الناس، وقد تصدقت عليهم بعرضي، فمن شتمني أو قذفني فهو في حل! فقال النبي
قال صلى الله عليه وسلم: { من يستطيع منكم أن يكون كأبي ضمضم }.
فلنحرص
كل الحرص على أن نكون كأبي ضمضم ونتأسى به ونحذوا حذوه فنعفوا ونسامح كل
من ظلمنا أو اغتابنا، لعل الله أن يعفو عنا ويسامحنا، وليكن ذلك من هذه
اللحظة قبل أن تضعف النفس ويثقل عليها الأمر فيما بعد.
وفق الله الجميع لما يحب ويرضى، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.