العفو والتسامح.. من أخلاق النبوة
كان رسول الله (صلى الله عليه
وسلم) المثل الأعلى في سمو الخلق وكرم الطباع وسماحة النفس، وإن يجلس إلى أعدى
أعدائه وخصومه حتى يأسر قلوبهم بأخلاقه وسجاياه.
إنّ سمو هذه النفس من
سمو هذه الرسالة، وإن عظمة هذه النفس من عظمة هذه الرسالة، يقول صاحب الظلال:
"والناظر في هذه الرسالة كالناظر في سيرة رسولها، يجد العنصر الأخلاقي بارزاً
أصيلاً فيها، تقوم عليه أصولها التشريعية وأصولها التهذيبية على السواء،
الدعوة الكبرى في هذه العقيدة إلى الطهارة والنظافة والأمانة والصدق،
والعدل والرحمة، والبر وحفظ العهد، ومطابقة القول للفعل، ومطابقتهما معاً للنيّة
والضمير، والنهي عن الجور والظلم والخداع، والغش وأكل أموال الناس بالباطل،
والإعتداء على الأعراض والحرمات،
وإشاعة الفاحشة بأي صورة من الصور،
والتشريعات في هذه العقيدة لحماية هذه الأسس وصيانة العنصر الأخلاقي في الشعور
والسلوك،
وفي أعماق الضمير وفي واقع المجتمع، وفي العلاقات الفردية والجماعية
والدولية على السواء".
يقول الله سبحانه وتعالى:
(... ادْفَعْ
بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ
وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا
إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) (فصلت/ 34-35)،
هذه الآية تصور لنا لوناً من
التأديب الإلهي، فإن معالجة المشكلات والأحقاد والخصومات بالطرق الودية الحسنة تؤثر
في الخصوم تأثيراً بالغاً، إذا لم يكن في طباعهم شذوذ عن المزاج الإنساني العام،
ولكن المشكلة هي: وجود القدرة على الصبر وكظم الغيظ، فليست هذه القدرة
بمتوافرة في طباع البشر ولا شائعة في أخلاقهم، وإنّما يتفرد بها الأفذاذ والعظماء
في فترات متباعدة من التاريخ: (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا)،
فإن كسب هذه الملكة النفسية النادرة يعتبر كنزاً خلقياً عظيماً، ويدل على
أن صاحبه ذو شخصية قوية، وإرادة حديدية وسيطرة على العواطف لا تغلب.
ولا
يتأتى ظهور هذه المزية الخلقية عند شخص ما إلا إذا امتحنته الأقدار في خصومة
فوضعتهم في يده، وأمكنته من شفاء غيظه، والإنتقام لنفسه،
فترفع بشخصيته عن
ذلك وعفا وتسامح، وعاملهم بالحسنى والصفح الجميل،
وإنما كان حظه عظيماً،
لأنّه
أوّلاً: يحمل في نفسه هذه الموهبة الخلقية الفذة،
وثانياً: لأنّه
من شأن من يتحلى بهذا الخلق أن يملك القلوب، ويحل المشكلات، ويبلغ بحكمته وأناته
وتلطفه مالا يبلغه سواه بالجنود المجندة، والمكايد المسددة، والتضحيات الكثيرة
والحديد والنار.
يجب أن تكون القاعدة الغالبة في حياتنا تحول الغضب إلى
سكينة، والإنفعال إلى هدوء، والهياج إلى وداعة،
إن معالجة المشكلات ومقابلة
الخصومات بالطرق الودية الحسنة تؤثر في الآخرين تأثيراً عظيماً، بل تغير موقفهم في
غالب الأحيان،
وصدق الله العظيم: (فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ
عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ)،
ومن أخلاق رسولنا (صلى الله عليه
وسلم) أنّه ما غضب لنفسه قط، ولا انتقم لها إلا أن تنتهك حرمة من حرمات الله،
ولذلك فإنّ المؤمن يصبر ويتسامح ويعفو في حالات الإساءة الشخصية لكن إنتهاك
حرمات الله والعدوان على العقيدة وفتنة المؤمنين عنها، هذه الحالات يدفع عنها
المؤمن لكن بالحكمة وبالتي هي أحسن، وبالموعظة الحسنة التي تنبه المعتدين إلى خطر
ما أقدموا عليه، أو بالصبر حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.