بسم الله الرحمن الرحيم
فتنتي الدنيا والنساء
عباد الله: أوصيكم ونفسي بالتقوى، فإنها هي الوصية العظمى، وتمسكوا بكتاب ربكم وسنة نبيكم صلى الله عليه وسلم، فإن التمسك بهما هو العروة الوثقى، واحذروا الذنوب ولا تجترئوا على علام الغيوب، وقد خاب من حمل ظلماً، ومروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر، ما دمتم في زمن الإمهال سلماً، وإلا فإقرار المنكرات سبب لخراب الديار العامرات، وقد تحققتم ذلك علماً، ولقد ورد عن نبيكم صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه». وفي (خ) قيل: «يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث» وفيه أيضاً عن أم سلمة قالت: «استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فزعاً مذعوراً يقول: لا إله إلا الله، ماذا أنزل الليلة من الخزائن؟ وماذا أنزل من الفتن؟ ومن يوقظ صواحب الحجرات - يريد زوجاته - لكي يصلين؟ رب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة».
عباد الله: تضمن هذا الحديث تحذيركم من فتنتين عظمتين أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى أولاهما بقوله: «ماذا أنزل الليلة من الخزائن؟.» يعني: فتن الدنيا، وأشار إلى الأخرى بقوله: «رب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة». يعني: فتنة النساء. ولقد جاء التصريح بهما والتحذير منهما في الحديث الذي خرجه (م) من حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله تعالى مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون؛ فاتقوا الدنيا واتقوا النساء».
وفي (خ م) عنه أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن مما أخاف عليكم من بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها»، وفيهما أيضا عن أسامة بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما تركت بعدي فتنة هي أضر على الرجال من النساء» وأخبر أن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء.
عباد الله: إن المتأمل لأوضاع العالم الإسلامي في القرون المتأخرة يجد أن فساد أكثر مجتمعاته كان بهاتين الفتنتين، فتحت الدنيا عليهم أو على مترفيهم فطغت نساؤهم، وضعف أمامها المترفون منهم فخرجت للشوارع سافرة، ونزعت الحجاب متبرجة، وزاحمت الرجال في المكاتب والأسواق والمنتزهات جريئة غير مستحية ولا خجلة، فانفردت بغير محرمها مخاطرة بشرفها وعفتها، متجاهلة سوء عاقبة جريمتها؛ فعمّت الفتن، ووقعت المصائب، وعاجلتهم العقوبة، حيث اختل أمنهم، واشتهرت فضائحهم، وولى الله عليهم شرارهم وسفهاءهم، وسطلهم على خيارهم لقاء تركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتعديهم حدود الله وانتهاكهم حرماته: ﴿وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ فزال سلطان ذوي الدين والرأي منهم، وذهبت نعمتهم من بين أيديهم، وجعل الله بأسهم بينهم، وسلط عليهم عدوهم ،فاستباح حرماتهم، وأذل عزتهم، وأذهب كرامتهم، ﴿وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾.
فاتعظوا - رحمكم الله - بمن مضى من القرون، واعتبروا بمن حولكم أيها السامعون، وأطيعوا الله ورسوله لعلكم ترحمون. أحلنا الله وإياكم دار الأمن والسلامة، وجنبنا وإياكم ما يوجب غضبه وانتقامه.
عباد الله: إن ما حدث في الأمصار من فتنة النساء التي أزال الله عنهم بها النعماء، وأحل بهم أصناف الشقاء والبلاء، والتي كان مبتدؤها خروجهن من المنازل، ووقوعهن بأنواع المهازل، كانت قد سبقتها دعوات مغرضة أغرتهن بالخروج إلى الأسواق ومواطن الفساق، وزينت لهن السفور، وشككتهن في الحجاب من حيث الشرعية والجدوى، وحثتهن على مزاحمة الرجال في الميادين والأعمال، بواسطة الفكرة المصورة والقصة المزورة عبر الوسائل المرئية والمسموعة والمقروءة، ثم تبع ذلك تهيئة الأسباب، وتوفير الوسائل، وإتاحة الفرص، والتشكيك في صدق وسعة أفق من يعارض ذلك من الناصحين، الذين يحثون على الاستفادة من تجارب السابقين، حتى نفذ المقدور، وتعسرت الأمور، وذاق أولئك ما في خروج النساء من بيوتهن، وخروجهن على أولياء أمورهن، وتعديهن لحدود خالقهن، من الشرور وذهاب السرور.
فاتقوا الله عباد الله: وخذوا حذركم، واعتبروا بغيركم، واتعظوا بمن سبقكم؛ فإن السعيد من وعظ بغيره، والتقي من وعظ بنفسه، فإنكم تعيشون الفتنة، وتجري لكم نفس المكيدة، وستواجهون - إن لم تحذروا وتتقوا، وتستدركوا فتصلحوا - أخطر النتيجة وأعظم المصيبة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ * وَاذْكُرُوا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾
الخطبة الثانية
الحمد لله الرحيم الرحمن، الملك الديان، أحمده سبحانه، يسأله من في السماوات والأرض، كل يوم هو في شأن، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً... أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله: فيما أنتم عليه من الدين والنعمة والهدى، واتقوا الله في النساء؛ فإن الله جعلكم عليهن قوامين، وعليهن مؤتمنين: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾؛ فإن الرجل راع في بيته ومسؤول عن رعيته، وأول مسؤوليته أن يقيمهم على طاعة الله، وأن يقيهم ناراً وقودها الناس والحجارة. ولقد نبهكم نبيكم صلى الله عليه وسلم على ما به تتقون فتنة النساء وكيد الأعداء بقوله: «ماذا أُنزل الليلة من الخزائن؟ وماذا أنزل من الفتن؟» فإن في ذلك توجيهاً للرجل أن يُحذّر أهله مما يعلم من الفتن، وأن يقطع عنهم أسباب المحن، ولابد من العزم على ذلك، والحزم مع أولئك.
وفي قوله صلى الله عليه وسلم: «من يوقظ صواحب الحجرات؟» تنبيه منه على أثر الصلاة في الاستقامة، وأنها من أسباب السلامة من موجبات الندامة.
وقد قال الله سبحانه: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى﴾ وقال سبحانه: ﴿وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾. فإذا نشأ أهل البيت على الصلاة، فرضها ونفلها، وأَخَصُّ النفل صلاة الليل؛ كان ذلك من أسباب النجاة من الفتن، واتقاء الشرور والمحن.
وفي قوله: «رب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة» تنبيه على أثر اللباس في السلوك، وأنه إن كان فاتناً كان من أسباب المهالك، وإن كان شرعياً عصم الله مرتديته من شر ما هنالك. وفيه أيضاً تذكير بأن اللباس إذا كان فيه فتنة فهو من أسباب الفضيحة في الآخرة، كيف لا وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم من أصناف أهل النار: «نساء كاسيات عاريات، مائلات مميلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة».