الدوافع الاقتصادية
والعوامل والدوافع التي دفعت بفرنسا على أن تحتل الجزائر، وتبسط عليها سلطانها تتلخص - قبل كل شئ- في المطامع الاقتصادية.
وأَيُّمَا عملية استعمارية تتم إلا وهي تحمل، أول ما تحمل عملية تجارية ترمي إلى استنزاف خيرات البلاد المحتلة، وبسط اليد على موارد الرزق فيها واحتكار أسواقها، واسترقاق أبنائها لصالح الغزاة المستعمرين.
ويصور هذه الفكرة أدق تصوير حاكم البنغال الوطني في مذكرته التي يشكو فيها لإدارة الشركة البريطانية أساليب عملائها في شهر مايو سنة 1722 إذْ يقول:” أنهم يستخدمون القوة في الاستيلاء على الطيبات والسلع من الفلاحين والتجار بربع قيمتها. وهم يرغمون الفلاحين وغيرهم بأساليب العنف والقهر،على أن يدفعوا في البضائع التي يبيعونها لهم خمسة أضعاف استحقاقها”.
ولقد اتسم القرن التاسع عشر، أكثر من غيره، بذلك التسابق، بين الدول الأوروبية والأمريكية إلى استعمار الشعوب والأمم في إفريقيا وآسيا حتى أنه أصبح ينعت”بعصر الاستعمار”، ومما لا شك فيه- تاريخيا وعمليا، واقتصاديا، أن فرنسا كانت أكثر تلك الدول شراهة في الغزو وبحثا عن الأسواق لتصرف منتجاتها، وسعيا وراء التوسع الاستعماري وبسط النفوذ والحصول على المواد الأولية ؛لأنها كانت أكثر خوفا من غيرها على تجارتها الخارجية بسبب منافسة هولندا، وإنجلترا لها،وبسبب فقدانها كندا والهند، وضياع مصر من يديها بعدما كانت تمني نفسها بخيراتها،وبالاستقرار في دلتا نيلها.
*الدوافع السياسية**
استقبلت فرنسا القرن التاسع عشر وهي مطرودة من كندا في أمريكا، ومن الهند في آسيا، ومن مصر في إفريقيا. ثم تتابعت عليها الهزائم في أوربا في آخر”العهد النابليوني” ورأت أحلامها تتحطم في القارة عندما عقد مؤتمر لندن الدبلوماسي على إثر هزيمة “نابليون” في “واترلو”.ومن ثم راحت تحاول استرجاع الصيت المنهار، والسمعة المتداعية والسلطان الضائع، والمجد السياسي المفقود. فحاولت أول ما حاولت لرد شئ من ذلك مهاجمة أسبانيا، ولكنها ردت على أعقابها خاسئة.
ثم تبدى وظهر لها في الجو مطمح طالما تاقت نفسها إليه، وتعلقت آمالها ومطامعها به، وهو وإن كان بالأمس دونه خرط القتاد إلا أنه يظهر لهم اليوم من السهولة و اليسر بمكان.
ذلك لأن العرين قد خلا من آساده (كذا)،ولأن الآجام والآكام قد غادرها ليوثها ولأن ثغور الجزائر قد ارتحل عنها المرابطون بها، وبعد عنها أبطالها في رحلتهم إلى الشرق منذ سنة 1827، بأسطول الجزائر وبقوتها البحرية اللُّجِّيَّة، لنجدة الأخوة الإسلامية المستغيثة وللدفاع عن الكرامة العربية والشرقية في محنتها، ولمساندة الأسطولين المصري والتركي في تلك المؤامرة الخبيثة، مؤامرة “نافارينو” التي تألبت فيها إنجلترا وفرنسا وروسيا عليهما، وتحالفت على أن تجعل حدًّا ونهاية للقوة الإسلامية في البحر تمهيدًا للسطو على الأقطار العربية والإسلامية، ووضع اليد على كنوزها وخيراتها مقسمة الأسلاب والمغانم، مستعبدة أبناء الفاتحين الأول وأحفادهم على حين بغتة من أمرهم.
فهرع الأسطول الجزائري إلى:”نافارينو” مدفوعًا بالحمية العربية ومسوقًا بالنخوة الإسلامية.و هنالك كانت الكارثة، ووقع ما لم يكن في الحسبان؛ إذْ كانت الدائرة على الأساطيل الثلاثة:المصري التركي،والجزائري ؛فابتلعها البحر بمن فيها من الأبطال الأشاوس.
وفقدت الجزائر بذلك، من جملة ما فقدت من معظم وحدات أسطولها الكبرى وعديد من الوحدات الخفيفة،أكثر من أربعة آلاف جندي بحار هبوا من الجزائر لنجدة العروبة والإسلام،فلقوا حتفهم بجانب إخوانهم المصريين والأتراك، ولسان حالهم ينشد:
ولست أبالي حين أُقْتَلُ مسلمًا** على أي جنب كان في الله مصرعي
الدوافع الصليبية
على أنه يجب أن لا نهمل هنا بالنظر تلك الدوافع الصليبية التي كانت تدفع فرنسا “البنت الكبرى للكنيسة الكاثوليكية” إلى احتلال الجزائر.
فهي بهذا الوصف الذي أسبغته على نفسها كثيرًا ما كانت تخامرها المطامع في أن تجعل لها من إفريقيا ما كان لروما الزائلة من سلطان روحي و استعماري، و هي لذلك لا تتحرج بأن تتعهد علنا للعالم الكاثوليكي بالعمل على ” تمسيح إفريقيا وردها إلى الكنيسة الكاثوليكية”.
ولماذا نذهب بعيدًا وها هو ذا “الدوق دي كليرمونت تونر ” وزير الحربية الفرنسية يثبت في التقرير الذي قدمه لملكه بتاريخ 14 أكتوبر سنة 1827 ما لا يترك مجالا للشك في نوايا فرنسا الصليبية. فهو يعدد في تقريره كل الاعتبارات التي حملت” شارل العاشرٍ” على أن يسارع دون ما إمهال إلى الأخذ بالثأر…” من الإهانة التي ألحقت بفرنسا ” وبأن يضمن في نفس الوقت ” اعتراف المسيحيين بالجميل وذلك بإبادة أشد أعدائهم طغيانا..، ويستطرد قائلا:” مولاي لقد قمتم ضد عاصمة الجزائر بحرب عادلة” (إشارة إلى الحملة التي قادها على إثر المروحة الأميرال” كولليت ” ضد الجزائر بتاريخ 16 يونية سنة 1827 ، وإلى التي قادها الكابتن دي فريجات ديبوتي _ توارس(في 20 أكتوبر من نفس السنة)”ولقد قمتم بها وحدكم … مولاي لعلـه ليس من الاحتمال في شيء وليس بدون أهداف خاصة أن تنادي العناية الإلهية ابن القدس لويس ليأخذ الثأر، وليقتص للدين للإنسانية، للإهانة التي لحقته هو بالذات… أنه لا توجد دولة كبرى يمكن أن يكون لها الحق بأن تملي على ملك فرنسا المعاملة التي يتخذها من انتصاره على داي الجزائر إذا ما منحته العناية هذا الانتصار أو أن تعدل (تلك الدولة الكبرى) من التعويضات التي يمكن أن يطلبها جزاء وفاقًا للتضحيات التي تسببها له حملة هي بعد كل شئ ليست بأقل فائدة لأوربا كلها منها لفرنسا نفسها.