المفتاح الأول: حب القرآن
المسألة الأولى: القلب آلة الفهم والعقل
قد دل على ذلك نصوص كثيرة ، الآيات القرآنية منها تزيد على مائة آية، وسأكتفي في هذه المسألة بذكر ثلاث منها مما هي صريحة الدلالة، وهي:
1-قول الله تعالى:﴿ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ ﴾ [(57) سورة الكهف].
2-وقوله تعالى : ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ [(46) سورة الحـج ].
3-وقوله تعالى: ﴿مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ ﴾[(4) سورة الأحزاب] .
وليس هذا مقام بسط هذه المسألة وتأصيلها ، وإنما المقصود التذكير بأن القلب آلة الفهم والعقل والإدراك ، ومن ذلك فهم القرآن وتدبره() .
المسألة الثانية : أن القلب بيد الله وحده
القلب بيد الله وحده لا شريك له ، يفتحه متى شاء ويغلقه متى شاء ، بحكمته وعلمه سبحانه :
1-قال الله تعالى : ﴿وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهَِ﴾[(24) سورة الأنفال]
2-وقال تعالى :﴿ إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه ﴾[ (57) سورة الكهف ]
3-وقال تعالى :﴿سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون ﴾ [ (164) سورة الأعراف ]
وقد جعل لذلك أسبابا ووسائل ، من سلكها وفق ، ومن تخلف عنها خذل ويأتي بيان ذلك في المسائل التالية .
فتذكر وأنت تحاول فهم القرآن أن القلوب بيد الله تعالى ، وأن الله يحول بين المرء وقلبه ، فليست العبرة بالطريقة والكيفية ؛ بل الفتح من الله وحده ، وما يحصل لك من التدبر فهو نعمة عظيمة من الله تعالى تستوجب الشكر لا الفخر ، فمتى أعطاك الله فهم القرآن ، وفتح لك معانيه ، فاحمد الله تعالى واسأله المزيد ، وانسب هذه النعمة إليه وحده ، واعترف بها ظاهرا وباطنا .
المسألة الثالثة: علاقة حب القرآن بالتدبر
من المعلوم أن القلب إذا أحب شيئا تعلق به ، واشتاق إليه ، وشغف به ، وانقطع عما سواه ، والقلب إذا أحب القرآن تلذذ بقراءته ، واجتمع على فهمه ووعيه فيحصل بذلك التدبر المكين ، والفهم العميق ، وبالعكس إذا لم يوجد الحب فإن إقبال القلب على القرآن يكون صعبا ، وانقياده إليه يكون شاقا لا يحصل إلا بمجاهدة ومغالبة ، وعليه فتحصيل حب القرآن من أنفع الأسباب لحصول أقوى وأعلى مستويات التدبر .
والواقع يشهد لصحة ما ذكرت ، فإننا مثلا نجد أن الطالب الذي لديه حماس ورغبة وحب لدراسته يستوعب ما يقال له بسرعة فائقة وبقوة ، وينهي متطلباته وواجباته في وقت وجيز ، بينما الآخر لا يكاد يعي ما يقال له إلا بتكرار وإعادة ، وتجده يذهب معظم وقته ولم ينجز شيئا من واجباته .
المسألة الرابعة: علامات حب القلب للقرآن
حب القلب للقرآن له علامات منها :
1-الفرح بلقائه .
2-الجلوس معه أوقاتا طويلة دون ملل .
3- الشوق إليه متى بعد العهد عنه وحال دون ذلك بعض الموانع ، وتمني لقائه والتطلع إليه ومحاولة إزالة العقبات التي تحول دونه.
4-كثرة مشاورته والثقة بتوجيهاته والرجوع إليه فيما يشكل من أمور الحياة صغيرها وكبيرها.
5-طاعته ، أمرا ونهيا.
هذه أهم علامات حب القرآن وصحبته ، فمتى وُجدت فإن الحب موجود ، ومتى تخلفت فحب القرآن مفقود ، ومتى تخلف شيء منها نقص حب القرآن بقدر ذلك التخلف .
إنه ينبغي لكل مسلم أن يسأل نفسه هذا السؤال: هل أنا أحب القرآن؟
إنه سؤال مهم وخطير ، وإجابته أشد خطرا ،إنها إجابة تحمل معان كثيرة.
وقبل أن تجيب على هذا السؤال ارجع إلى العلامات التي سبق ذكرها لتقيس بها إجابتك وتعرف بها الصواب من الخطأ .
إن بعض المسلمين لو سئل هل تحب القرآن ؟ يجيب : نعم أحب القرآن ، وكيف لا أحبه ؟ لكن هل هو صادق في هذا الجواب ؟
كيف يحب القرآن وهو لا يطيق الجلوس معه دقائق ، بينما تراه يجلس الساعات مع ما تهواه نفسه وتحبه من متع الحياة.
قال أبو عبيد : "لا يسأل عبد عن نفسه إلا بالقرآن فإن كان يحب القرآن فإنه يحب الله ورسوله"
إننا ينبغي أن نعترف بالتقصير إذا لم توجد فينا العلامات السابقة ، ثم نسعى في التغيير ، وهو ما سيتم بيانه في المسألة التالية .
المسألة الخامسة: وسائل تحصيل حب القرآن
الوسيلة الأولى: التوكل على الله تعالى والاستعانة به
الدعاء بحب القرآن أمر عظيم، من استجيب له سعد في حياته سعادة لا يشقى بعدها أبدا ، ومن رزقه الله حب القرآن فقد رزقه الإيمان ،وسهل له طريق الجنان، وما دام الأمر بهذه الأهمية فإننا لم نترك فيه هملا فقد بينه الله ورسوله لنا أوضح بيان وهو في أربعة أمور:
الأول: الفاتحة
فقد تضمنت الفاتحة سؤال الهداية إلى الصراط المستقيم ، وهو صراط الذين أنعم الله عليهم ، ومن أهم نعم الله عليهم أن فتح لهم أبواب كتابه ويسر لهم العيش في رحابه ، فعندما تقرأ الفاتحة فأنت تدعو الله تعالى أن يرزقك حب كتابه العظيم ليحصل لك بذلك الغوص في أعماقه والنجاة به في الحياة الدنيا والآخرة .
الثاني: الاستعاذة
فإن الشيطان قد قطع على نفسه العهد أن يقطع عليك طريق الوصول إلى القرآن الكريم الذي هو صراط الله المستقيم ، وقد أمرنا الله أن نستعيذ من الشيطان في كل مرة نريد قراءة القرآن الكريم : ﴿ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴾ [ سورة النحل - الآية : 98 ].
الثالث: البسملة
البسملة حقيقتها دعاء وتوسل إلى الله تعالى بثلاثة من أسمائه: الله ، الرحمن ، الرحيم ، ليمدك بالعون والبركة فيما أنت مقبل عليه ، وما تريد أن تقوم به.
الرابع: دعاء حب القرآن
عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما قال عبد قط إذا أصابه هم أو حزن : اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك ناصيتي بيدك ماض في حكمك عدل في قضاؤك أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي إلا أذهب الله همه وأبدله مكان حزنه فرحا قالوا يا رسول الله ينبغي لنا أن نتعلم هذه الكلمات قال أجل ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن"()
وهذا الدعاء من الأدعية المستجابة لأنه تضمن ثلاثة أمور:
الأول: التوسل بالعبودية لله تعالى .
الثاني: التوسل بجميع أسماء الله وصفاته ومنها الاسم الأعظم الذي إذا دعي الله به استجاب كما ثبت في الحديث الصحيح
الثالث: الوعد من النبي صلى الله عليه وسلم بأن من دعا به أن يذهب الله همه ويبدله مكان حزنه فرحا ، فماذا ننتظر بعد كل هذه التأكيدات؟
إن القرآن الكريم روح ونور ؛ كما قال الله تعالى : ﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [ سورة الشورى - الآية : 52 ]
وقد جاء في الحديث وصف أقوام بأن القرآن لا يجاوز تراقيهم أو حناجرهم ،أي لم يصل نور القرآن وروحه إلى قلوبهم بل الطريق إليه مسدود فهو متوقف في الحناجر ولم يفتح له ليصل إلى القلب ، فالذي يدعو بهذا الدعاء فهو يسأل الله تعالى أن يزيل هذه العوائق ويفتح الطريق إلى القلب ليصل إليه نور القرآن وروحه.
ليس كل من قرأ القرآن قد وصل القرآن إلى روحه وقلبه ونفسه ، بل الكثير منهم محرومون من ذلك .
لنتذكر أن الحاجة المطلوبة في هذا الدعاء عظيمة يتوقف عليها سعادة الإنسان الأبدية ؛ وهي أن يكون القرآن ربيع قلبه؛ أي الماء الذي يسقي قلبه فيحييه ويقويه بعد أن كان قاسيا مريضا ، وكذلك الدعاء بأن يكون القرآن نور صدره ، وما ظنكم بصدر دخله نور القرآن هل يبقى فيه شيء من القلق أو الهم أو المرض؟ وما ظنكم بقلب دخله روح القرآن كيف تكون قوته وثباته .
فهذا الدعاء حاجتنا إليه أشد من حاجتنا للطعام والشراب والنفس ، من استجيب له هذا الدعاء فقد حيزت له الدنيا بحذافيرها ، ومن حرم منه فقد فاته كل شيء وإن حصل كل ملذات الدنيا وشهواتها.
إن بعض الناس لا يعرف الإلحاح في المسألة إلا في مطالبه الدنيوية المادية ، أما الأمور الدينية فتجد سؤاله لها باردا باهتا ، هذا إن دعا وسأل .
فعلى كل مسلم أن يكرر هذا الدعاء كل يوم ثلاثا ، خمسا ، سبعا ، ويتحرى مواطن الإجابة ، ويجتهد أن يكون سؤاله بصدق ، وبتضرع ، وإلحاح ، وشفقة ، وحرص شديد أن يجاب وأن يعطى.
وعليه بالصبر والاستمرار حتى يستجاب له ويحصل على مطلوبه ؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ما لم يستعجل ، قيل يا رسول الله ما الاستعجال ؟ قال يقول قد دعوت وقد دعوت فلم أر يستجيب لي فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء()
ومن علامات استجابة هذا الدعاء أن يشرح صدرك لكثرة قراءته ، وكثرة القيام به في الليل والنهار ، وعندها عليك أن تحمد الله تعالى وتشكره على هذه النعمة العظيمة وتسأله دوامها وزيادتها.
الوسيلة الثانية: القراءة
أي القراءة عن عظمة القرآن مما ورد في القرآن والسنة وأقوال السلف في تعظيمهم للقرآن وحبهم له .
أقترح على كل راغب في تحصيل حب القرآن أن يضع له برنامجا يتضمن نصوصا من القرآن والسنة وأقوال السلف ، فيها بيان لعظمة القرآن ومكانته ، ويرتبها على مستويين : متن ، وشرح ، فالمتن يحفظ ويكرر ، والشرح يقرأ ويفهم ، ويتم ربط المعاني التي تضمنها الشرح بألفاظ المتن() .
ويرجى بإذن الله تعالى لمن طبق هذا البرنامج أن يرزقه الله حب القرآن وتعظيمه ، الذي هو المفتاح الرئيس لتدبر القرآن وفهمه ، وكل كلام يقال في هذا الموضوع فهو متوقف عليه ، وهذا السر في أن الكثير منا يقرأ في هذا الموضوع ولا يخرج بأي نتائج إيجابية .
فأكثر من القراءة عن القرآن() ، اقرأ باستمرار عن حال السلف مع القرآن وقصصهم في ذلك وأخبارهم .()
ينبغي أن نعلم أن عدم حبنا للقرآن ، وعدم تعظيمنا له سببه الجهل بقيمته ، مثل الطفل تعطيه خمسمائة ريال فيرفض ويطلب ريالا واحدا ، فكذلك من لا يعرف قيمة القرآن يزهد فيه ويهجره ويشتغل بما هو أدنى منه .
لو أعلن عن كتاب من يختبر فيه وينجح يمنح عشرة مليارات ؛ فكيف يكون حرص الناس وتعلقهم بهذا الكتاب ؟ وكيف يكون الطلب عليه ، والاشتغال بمذاكرته ؟
إن القرآن كتاب من ينجحْ فيه يمنحْ ملكا لا حدود له .
إن الكثير من المسلمين تعظيمه للقرآن تعظيم مجمل ، فحد علمهم : أنه كتاب منزل من عند الله ، تعبَّدنا بتلاوته في الصلاة ، ونقرؤوه على المرضى للشفاء ، أما العلم التفصيلي بعظمة القرآن ومكانته وما يحققه من نجاح للإنسان في هذه الحياة فهو محل جهل عند الكثيرين ، وأضرب لذلك مثالا : لما تسمع عن شخص عظيم له أثر في التاريخ يتكون لديك صورة إجمالية عنه ، ويصبح له مكانة في نفسك ، وعندما تقرأ كتابا من 600 صفحة عن بطولاته وتضحياته وقصص كرمه وبره للناس ، وما حققه من إنجازات ، وما قام به من مروؤات ، تعيش مع هذا الكتاب مدة شهر حرفا حرفا فبكل تأكيد أن صورة هذا القائد أو المصلح ستزداد عمقا ، ويزداد حبك وتعظيمك له ، وهذا التأثر أمر مشاهد لا يمكن لأحد إنكاره ، فلم لا نوظفه لزيادة حبنا وتعظيمنا للقرآن الكريم وتعلقنا به ، فإذا فعلنا ذلك فإن هذا الكتاب العظيم سيزيد حبنا وتعظيمنا لله عز وجل ، وبهذا نصل إلى مرتبة ودرجة أولياء الله المتقين ، الذين لا خوف عليهم ولا هم يخزنون ، الذين لو أقسم الواحد منهم على الله لأبره ، وحقق له أمنيته .