إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونستهديه، ونعوذبا لله من
شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل
فلن تجد له وليا مرشدًا.
وأشهدأن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًاعبده ورسوله. ثم أمـا بعد:
فإنا قد ذكرنا من قبل ذلك الكثير عن أهمية
دراسة التاريخ، وأشرنا في مؤلفات متعددة إلى أنه لا جديد على الأرض،
التاريخ يكرر نفسه بصورة عجيبة. نفس الأحداث نراها رأي
العين،
باختلاف في الأسماء والأمكنة، فدارس التاريخ بعمق كأنه يرى المستقبل،
ويقرأ ما يَجِدّ على وجه الأرض من أمور، ولا يُخدع بسهولة، مهما تفاقمتالمؤامرات، ومهما تعددت وسائل المكر والمكيدة. دارس التاريخ بعمق يعرف
أين يضع قدمه؟ وكيف يقود نفسه ومجتمعه وأمته؟ دارس التاريخ بعمق كالشمس
الساطعة تنير الطريق لأجيال تتلوها أجيال، وقد يمتد أثره إلى يوم
تقوم الساعة، كيف لا؟ وقد ذكرنا من قبل أنه لا جديد على الأرض يكفينا
الأمر الإلهي الحكيم:
[فَاقْصُصِ القَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ]
{الأعراف:176} . فقص القصة، أو رواية الرواية لا
يغني شيئا إن
لم يتبع بتفكر. دراسة التاريخ ليست دراسة تكميلية أو جانبية أو
تطوعية. دراسة التاريخ ركن أساسي من أركان بناء الأمة القويةالصحيحة.
في دراستنا للتاريخ نعرض لأمور لا تستقيم حياة
المسلمين
بغيرها، وسنجد أننا في دراستنا للتاريخ نعرض لأمور من العقيدة،
وأمور من الفقه، وأمور من الأخلاق، وأمور من المعاملات، وأمور من الأحكام.
نعرض لفقه الموازنات، وفقه الأولويات، نعرض لفقه الواقع، أو إن شئت
فقل: نعرض لكل أمور الدين. هكذاكان الله في كتابه الحكيم يقص القصة،
فيعرض فيها الحجة التي تقنع العقل، ويعرض فيها الرقيقة التي تلمس
القلب، وقد يعرض فيها أمرا عقائديا، وقد يعرض
فيها حكمـًا فقهيًا،ثم هو يربط القديم بالحديث، والتاريخ بالواقع، والماضي بالحاضر، فتشعرأن التاريخ حيٌّ ينبض، ولسانٌ ينطق.
أبدًا هو لا يحدثنا عن رجال ماتوا،
ولا عن بلاد طواها التاريخ بين صفحاته العديدة. وإنما هو يحدثنا
عن أحداثنا، وينبئنا بأنبائنا، ويخبرنا بأخبارنا. التاريخ
ثروة مدفونة تحتاج إلى بذل مجهود، وتفريغ وقت، وحشد طاقات، تحتاج إلى عقول،وقلوب، وجوارح، تحتاج إليكم جميعا يا من ترجون للإسلام قيامًا. والتاريخالإسلامي هو - ولا شك في ذلك - أنقى وأزهى وأعظم وأدق تاريخ عرفته البشرية،
وسعدت الدنيا بتدوينه. التاريخالإسلامي هو تاريخ أمة شاهدة،
أمة خاتمة, أمة صالحة، أمة تقية نقية، هو تاريخ أمة آمرةٍ بالمعروف
ناهيةٍ عن المنكر، داعية إلى كل خير، محاربة لكل شر. التاريخالإسلامي هو تاريخ رجال ما عرف التاريخ أمثالهم، رجال فقهوا دينهم،
ودنياهم،
فأداروا الدنيا بحكمة وعيونهم على الآخرة، فتحققت المعادلة الصعبة
العجيبة: عـزٌ في الدنيا، وعز في الآخرة، مجد في الدنيا، ومجد في
الآخرة، ملك في الدنيا، وملك في الآخرة. التاريخ الإسلامي هو تاريخ حضارة
جمعت كل مجالات الحياة في
منظومة رائعة راقية, جمعت الأخلاق، والسياسة،
والاجتماع، والاقتصاد، والمعمار، والقضاء، والترفية، والقوة،والإعداد، والذكاء، والتدبير. جمعت كل ذلك جنبا إلى جنب مع سلامة العقيدة،
وصحة العبادة، وصدق التوجه، ونبل الغاية. وصدق الله تعالى
إذ
يقول:
[اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَدِينًا]
{المائدة:3}.
هذا هو التاريخ في أصله وجوهره. ولا يمنع ذلك أنهيحوي
أخطاءً بعضها عظيم، ويشمل عيوبا بعضها خطير، وإنه لمن
العبث أن ندعي
أنه بياض بلا سواد، ونقاء بلا شوائب، لكن من الظلم البين أن نلصق أخطاء
المسلمين بدين الإسلام.
فالإسلام دينٌ لا ثغرة فيه، ولا خطأ فيه،
ولا عيب فيه، دين محكم تام كامل، أنزله الذي يعلم السر، وأخفى،
سبحانه
الحكيم الخبير، ومن خالف دين الإسلام من المسلمين،
فوباله على نفسه،
وليس على الإسلام. وكثيرا ما يخالف الناس، فتحدث هزات
وسقطات،
لكنها ما تلبث أن تتبع بقيام إذا ثابوا إلى رشدهم، وعادوا إلى دينهم،
وإلا استبدلهم القوي العزيز بغيرهم من المجاهدين
الصابرين الطاهرين.
ثم وقفة وسؤال: هذه الثروة وهذا الكنز العظيم، ثروة التاريخ
الإسلامي الطويل، مَن مِن البشر في زماننا أمَّنّاه عليها؟ مَنمِن البشر أعطيناه مفاتيح الكنوز التاريخية؛ لينقب فيها ويستخرج جواهرها؟
مَن مِن البشر أسلمناه أذننا، وعقولنا، وأفئدتنا؛ ليلقي عليها ما استنبط
من أحكام وما عقله من أحداث؟
عجبا لأمتنا!! لقد أعطت ذلك
لحفنة من الأشرار، طائفة من
المستشرقين، وطائفة من المفتونين بهم من
أبناء المسلمين تسلموا كنز التاريخ؛ لينهبوا أجمل ما فيه وليغيروا ويبدلوا
ويزوروا، فيخرج التاريخ إلينا مسخًا مشوهًا عجيبًا، فتقطع حلقةالمجد، وينفصل المسلمين في حاضرهم
عن ماضيهم، كما تنفصل الروح عن الجسد
تماما بتمام. انتبهالشباب فوجدوا بين أيديهم سجلًا حافلًا من
الصراعات والمؤامرات والخيانات والسرقات، صفحات سوداء تتلوها صفحات أسود،
واحتـار الشباب في تاريخهم أيمسكونه علي هونٍ أم يدسونه في
التراب؟!
فويلٌ، ثم ويل لمن افترى على الله كذبًا؛ ليضل الناس بغيرعلم. وويل،ثم ويل لأبناء المسلمين الذي فتنوا بمناهج العلمانية،
فصاغوا
التاريخ صياغة مشوهة مزورة محرفة، فحرموا المسلمين من أمثلة عملية
تطبيقية رائعة لكل أمر من أمور الدين.
وويل، ثم ويل لمن يقدرعلى التصحيح فلم يفعل، ولمن يقدر على التوضيح والتبيين فلم يفعل، و لمن
يقدر على النصح والإرشاد فلم يفعل. يقول جابر بن عبد اللهض:
إذا لعن آخر هذه الأمة أولها، فمن كان عنده علم فليظهره، فإن كاتمالعلم يومئذٍ ككاتم ما أُنزل على محمد صلى الله عليهوسلم. يا الله!
لهذه الدرجة؟ منسمع طعنًا في الصحابة، أو في الصالحين من الأمة،
ثم لم يَرُد، كان كمن كتمما أُنْزل على رسول الله صلى الله عليه
وسلم؟ نعم؛ لأنه: كيف وصل إلينا ما نزل على رسول الله صلى الله
عليه وسلم؟ ألم يصل إلينا عن طريق الصحابة، والتابعين، وتابعي التابعين؟فإذا طُعن في هؤلاء دون توضيح لحقيقتهم الطاهرة، لم يُقبلما
يأتي عن طريقهم. و هذا هَدم للدين بالكلية.
إذن تزوير التاريخ
أمر خطير مروع، يحتاج إلى وقفات ووقفات. و لهذا كانت هذه السطور.
ولقد اخترت لكم حدثا جليلا عظيما من أحداث التاريخ الإسلامي آثرتأن أفرد له هذا البحث، حتى ندرسه ونفقهه ونحلله؛ فنتحرك به خطوة، بل خطواتإن شاء الله إلى الأمام. هذا الحدث الجليل هو استخلاف الرجل الجبلأبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه على المسلمين بعد وفاة رسول صلى الله
عليه وسلم. ولاحظوا أنني أقول استخلاف أبي بكر الصديق، ولا أقول
أني سأحدثكم عن خلافة أبي بكر الصديق، فهذا يطول ويتشعب، لكني فقطفي هذا البحث أتحدث عن قصة الاستخلاف: كيف اختير أبو بكر الصديق خليفةللمسلمين؟
وكيف تم؟ وما هي خطواته وما هي تبعاته؟
ماذا
حدث
في سقيفة بني ساعدة؟
وماذاأثير حولها من شبهات من المستشرقين وأحبابهم؟
والحق أن كثيرا من القراء قد يتعجبون لإفراد هذا الحدث، الذي
يعدونه حدثًا قصيرًابسيطًا في التاريخ ببحث خاص. فالحدث تم في
أقل من يوم واحد، وتاريخ المسلمين أربعة عشر قرنًا من الزمان، فهل نفرد
له بحثا خاصـًا؟ ولماذا هذا الحدث بالذات؟ وأجيب عن هذا السؤال
بنقاط خمس: أولا: دراسة تاريخ الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر
وعثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين، تعتبر من أهم الأمور التي يجب أن
يحرص عليها المسلمين، ويجب أن يحرصوا على دراستها دراسة وافية، مستفيضة
شاملة لكل نقاط حياتهم، فهي فترة من أهم فترات التاريخ الإسلامي،
بل هي أهمها علي الإطلاق بعد فترة الرسول صلى الله عليه وسلم،
لماذا؟ لأن هذه الفترة تعتبر جزءًا من التشريع الخاص بالمسلمين،
وقد يستغرب البعض أن هناك تشريعًا بعد رسول الله صلى الله عليه
وسلم، ولكن الواقع أن كثيرًا من الأمور جدت على حياة المسلمين بعدوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكانت هذه الأمور تحتاجإلى فقهٍ واجتهاد،
فاجتهد فيها هؤلاء الأخيار واختاروا آراءً سديدة ساروا عليها،وسارت الأمة معهم، فكانت تشريعًا للمسلمين. حدثتأمورٌ ما كان لهاشبيه في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم منها هذا الحدث الذي نحن بصدده
وهو: اختيار خليفة للمسلمين. ومنها فتوحات عظام في أراض شاسعة،
وما تبع ذلك من أمور. ومنهاأمور فقهية، ومنها شبهات أثيرت فدافعوا
عنها. فترة جليلة حكم فيها خير المسلمين على الإطلاق، وكانالمحكومون هم خير أهل الأرضبعد الأنبياء. من هنا نستطيع أن نفهم حديث
رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه الترمذي رحمهالله، وقالحديث حسن صحيح. ورواه أيضا أبو داود رحمه الله عن العرباض بن سارية
رضي
الله عنه قال: وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مَوْعِظَةً بَلِيغَةً وَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ،وَذَرَفَـتْ مِنْهَا الْعُيُونُ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَأَنَّهَا
مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ، فَأَوْصِنَا. قال: أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى
اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ تَأَمَّرَ عَلَيْكُمْ
عَبْدٌ، وَإِنَّهُ مَنْ يَعِيشُ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلَافًا
كَثِيرًا.
وصدقت يا رسول الله، ونحن الآن نعيش في هذا
الزمن الذي
فيه
اختلاف كثير، تشعبت بنا الطرق، وكثرت عندنا المناهج،
وتعددت
أمامنا
الأساليب، فماذا نفعل؟
في أي طريق نسير؟
وأي
المناهج
نتبع؟
وأي الأساليب نختار؟
انظر إلى نصيحة رسول الله صلى الله
عليه وسلم: وَإِنَّهُ مَنْ يَعِيشُ مِنْكُمْ فَسَيَرَى
اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي، وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ
الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّيمِنْبَعْدِي،عَلَيْهَابِالنَّوَاجِذِ(بالأضراس) وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ،
فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ
ضَلَالَةٌ.
عندما تتشعب الطرق عليك بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. هذا بالطبع مفهوم،
لكن لماذا يضيف صلي الله عليه وسلم:
وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِالرَّاشِدِينَ
الْمَهْدِيِّينَ؟ إذا كان الخلفاء
الراشدون
سيعيشون حياة ليس
فيها اختلاف عن حياة الرسول صلي الله عليه وسلم،فإنهمن الطبيعي
والمنطقي أن يقلدوا الرسول صلى الله عليه وسلم في كل شيء،ولا يبقى
مجال لاجتهادهم، ومن ثم لا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:عليكم
بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين. لكن الواقع أن الأمور التي
جدت على الأمة في عهدهم وضعت أشياء كثيرة كانت تحتاج إلى عقول
ذكية، وقلوب طاهرة كعقول وقلوب الخلفاء الراشدين، فأصبح ما يفعلون
ليس مقبولًا فقط، بل شَرْع للأمة إلى يوم الدين.
خلاصة هذه النقطةأن دراسة تاريخ الخلفاء الراشدين المهديين جزء من الدين والشرع، لا بدأن يعطي له المسلمون اهتمامًا خاصًا,
وقصة الاستخلاف هي أول الأحداث في
عهد الخلفاء؛ ولذلك سنتحدث عنها، ثم يليها إن شاء الله الحديث عن الأحداث
الأخرى.
ثانيا: الذي يهمنا في قصة استخلاف أبي بكر الصديق رضي
الله عنه، أننا سنستخلص أحكامًا وأمورًا هامة من هذه الحادثة تفيد
جدًا
في بناء الأمة الإسلامية بناءً صحيحـًا: ما هو معني الشورى؟ وكيف التصرف عند الاختلاف؟ وما هي طرق عرض وجهات النظر؟ ولماذا يختار
رجلٌ دون آخرٍ لإمارة ما؟ وأمورٌ أخرى كثيرة سيتم مناقشتها في
مكانها إن شاء الله. ثالثا: أن هذا الحدث الهام هو بداية حياة المسلمينبدون رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولا شك أن هذا أمر يدعو إلى الاهتمام،
فغياب رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرُ صعب، والأصعب من ذلك
غياب الوحي وانقطاعه عن الأرض إلى يوم القيامة، يظهر هذا واضحًا منقصة أم أيمن: روى مسلم عن أنس رضي الله عنه قال: قال أبو بكر لعمررضي الله عنهما بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم: انْطَلِقْ بِنَا
إِلَى أُمِّ أَيْمَنَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا نَزُورُهَا كَمَا كَانَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَزُورُهَا. فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَيْهَا بَكَتْ، فَقَالَا لَهَا:مَا يُبْكِيكِ أَمَا
تَعْلَمِينَ أَنَّ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَتْ: إِنِّي لَا أَبْكِي أَنِّي
لَا أَعْلَمُ أَنَّ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِرَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنْ أَبْكِي أَنَّ الْوَحْيِ
قَدِ انْقَطَعَ مِنَ السَّمَاءِ. فَهَيَّجَتْهُمَا عَلَى الْبُكَاءِ
مَعَهَا. الصحابة كانوا يعيشون الوحي، وتخيل معي الأمر الغريب، كل
يومأو يومين يحدثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يريده الله
عز وجل منهم. الله يقول لكم كذا. الله ينهاكم عن كذا.
الله غفر لفلان. الله يحب فلان. الله يبشر فلان بالجنة.
الله يوضح لكم سبب النصر في هذه الغزوة، والله يوضح لكم سبب الهزيمةفي غزوة أخرى. إذا اختلفوا نزل الوحي يؤيد رأيا على رأي، ويعدل المسار
ويصحح الوجهة. وفجأة انقطع الوحي بموت الرسول صلى الله عليهوسلم، وانقطعت العلاقة التفاعلية بين الصحابة وبين الله عز وجل، وأصبحعليهم أن يجتهدوا في أن يعرفوا:
أين غضب الله؟ وأين رضاه؟ إذااختلفوا عليهم أن يختاروا رأيـًا دون انتظار التعديل الإلهي، نعم وضع الله
ورسوله لهم قواعد محددة للسير عليها، ولكن شتان بين الموقف قبل انقطاع
الوحي، والموقف بعد انقطاع الوحي. وحادثةاستخلاف أبي بكر الصديق
هي أولى الحوادث التي تمت في هذا الجو، ولا بد أن في دراستها عبرًا
لا تحصى، وفوائد لا تقدر بثمن.
رابعا:
وتأتي أهمية حادث الاستخلاف
أيضا في أنه تبعه أحداث جسام في حياة المسلمينما كانت لتتم لولا
أن اختار المسلمون أبا بكر الصديق رضي الله عنه ليكون خليفة للمسلمين،
فالرجل له طابع يختلف عن كثير من الصحابة، سنتعرف عليه إن شاءالله في هذه السطور، وستشعر كم كان الله رحيمًا بالمؤمنين، ومسدِدًا لخطاهملَمّا يسر لهم اختيار هذا الصحابي الجليل لهذه المهمة الثقيلة، مهمةخلافة
المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. علىسبيل المثال:
حرب الردة، فلولا أبو بكر الصديق لما كانت تلك الحروب الضارية
الدامية الواسعة النطاق. أيضاالفتوحات الإسلامية العجيبة لدولة
فارس والروم، أحداث من العجب أن تتكرر على هذه الصورة، إلا بقيادة
مثل قيادة أبي بكر الصديق، قد يكون من السهل على من تبعه من خلفاء
أن يقوموا بالفتوحات من بعده؛ لأنه فتح لهم الطريق، لكن يبقى الأثر
أعمق، والأجر أعظم لمن بدأ بسَنّ سُنّة حسنة تبعه فيها الآخرون. حادث الاستخلاف هو النقطة التي انطلقت منها الأمة إلى هذه الأحداث الجسام، فلابد
أن دراسة هذه الفترة ستلقي بظلال هامةعلى هذه الأحداث العجيبة. خامسا:ومن أهمية دراسة هذا الحدث الخطير أيضا أنه كثر طعن المستشرقين واتباعهم
في كل من شارك في هذه العملية الهامة. لم يتركوا أحدا، ضربوا
كل الرموزالإسلامية العظيمة، وأظهروا الأمر على أسوأ ما يكون، طعنوا
في أبي بكر، وعمر، وأبي عبيدة بن الجراح، وعائشة، وسعد بن عبادة،وزيد بن ثابت، وأبي هريرة، والسيدة فاطمة، بل طعنوا في علي بن أبي طالب
في صورة الثناء عليه، وذموه في صورة المدح، طعنوا في العباس بن المطلب
عم رسول الله صلي الله عليه وسلم. خلاصة الأمر أنهم أخرجوا لنا
صورة مهلهلة قبيحة لخير الأجيال، وخير القرون. فإن كان هم كذلك،
فأي خير يرتجي مَن جاء مِن بعدهم؟ وأخطر من ذلك: إن كانواهم كذلك فكيف نأخذ ديننا عن طريقهم؟ وكيف نقبل باجتهادهم؟ فالمستشرقونبذلك يضربون الدين في عمقه ويدمرون الإسلام في أصوله. هذا الكلام،ليس تاريخا قديما فعله بعض المستشرقين في السابق، والحال الآن غير ذلك،
بل هذا الكلام ما زال يتردد في أفواه بعض من يدرسون التاريخ في الجامعات
المتخصصة سواء فيالجامعات المحلية، أو الجامعات الغربية التيتفتح فروعا في البلاد الإسلامية، وبالطبع يردد أيضا بكثرة في الجامعاتالغربية في خارج الأقطار الإسلامية لتشويه صورة الإسلام والمسلمين. هنا
وجب
علينا أن ندفع هذه الشبهات، وأن نوضح للناس الصورة الحقيقية للأحداث
التي تمت بخصوص هذه القصة، قصة استخلاف أبي بكر الصديق رضي الله
عنه، وعن صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم أجمعين. لهذه الأسباب
مجتمعة فإننا نستعين بالله في شرح هذا الحدث، وسنتبعه بغيره إنشاء الله، فتاريخ المسلمين بحق بحرٌ لا ساحل له. ولكي نفهم هذا
الحدثالكبير، ولكي نستوعب اختيار أبي بكر الصديق خليفة للمسلمين، لا بد أن
ندرس
في البداية شخصية هذا الرجل النادر. لا بد أن
نعرض لطرف بسيط من
حياته. نحن لا نستطيع أن نفتح الباب على مصراعيه لرؤية شخصية هذا
الرجل الفذ العملاق، نحن فقط نلقي نظرةً على استيحاء لنعرف: ما هذا؟
ما هي مفاتيح الشخصية عنده؟ ما سر هذه الرؤية الواضحة
عنده
في كل الأمور؟ما سر هذه الدرجة الرفيعة التي نالها في دنياه وآخرته؟
أبو بكر الصديق رضي الله عنه شخصية عجيبة جمعت بين طياتهاالرقة والشدة، والرحمة والقوة، والأناة والسرعة، والتواضع والعظمة، والبساطةوالفطنة. شخصية عجيبة، جمعت كل ذلك، وأضعافهمن فضائل الأخلاق
والطباع،
وهبه الله حلاوة المنطق، وطلاقة اللسان، وقوة الحجة، وسداد الرأي،
ونفاذ البصيرة، وسعة الأفق، وبعد النظرة، وصلابة
الغزيمة، كل
هذا
وغيره، وليس بنبي، إن هذا لشيء عجيب.
فشخصيةأبي بكر الصديق رضي
الله عنه شخصية عجيبة ما تكررت في التاريخ.
انظر تقييم علي بن أبي طالب
لهذه الشخصية، أخرج البخاري عن
محمد بن علي بن أبي طالب قال: قلتلأبي: أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ؟ قال: أَبُو بَكْر. قلت:
ثُمَّ مَنْ؟ قال:عُمَرُ. وَخَشِيتُأَنْ يَقُولَ عُثْمَانُ، فَقُلْتُ: ثُمَّ أَنْتَ؟
قال:مَا أَنَا إِلَّا رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وهذاتواضع
من علي بن أبي طالب.تُرى كيف كانت شخصية هذا الرجل الذي هوخير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال رسول الله صلى الله
عليه
وسلم في جزء من حديث رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله
عنه:
إِنَّ مِنْ أَمَنِّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي صُحْبَتِهِ
وَمَالِهِ أَبَا بَكْرٍ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا غَيْرَ رَبِّي لَاتَّخَذْتُأَبَا بَكْرٍ، وَلَكِنْ أُخُوَّةَ الْإِسْلَامِ وَمَوَدَّتَهُ.
فهذهمقامات عالية جدا، فأبو بكر الصديق كما في الحديث من أَمَنّ الناس علىرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أي أكثرهم مِنّة وفضلًا. وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخذ الله خليلا ولولا ذلك لاتخذ أبا بكر؛ أيأنه لو اصطفى من
البشر خليلا لكان أبو بكر رضي الله عنه، ولكن أخوة
الإسلام.
كيف يكون هذا الرجل الذي ظفر بتلك المنزلة الراقية؟
وكيف
وصل
إليها؟
لا نريد دراسة
أكاديمية لحياة أبي بكر الصديق، ولكن أحب
أن نبحث في مفاتيح شخصية هذا
الرجل العظيم،
كيف تسهل عليه فعل كل
هذا
الخير؟
وكيف حافظ عليه؟
ثم هل من سبيل بعد
معرفة هذا أن
نقلده
فيما فعل، فنصل إلى ما إليه وصل؟
-
بتحليل شخصية أبي بكر الصديق
رضي الله عنه وأرضاه، وجدت أنه يتميز عن غيرهفي جوانب كثيرة مأهمها خمسة أمور، من هذه الأمور الخمسة تنبثق معظم صفاتالصديق رضي الله
عنه وأرضاه:
- حب رسول الله صلى
الله عليه وسلم
- رقة
القلب،
ولين الجانب
- السبق والحسم
- إنكـار الذات
الثـبـات وهذه الصفات الخمسة هي التي سنتناولها في الجزء الأول منالبحث، بإذن الله. أمـافي الجزء الثاني، فسنتوقف عند أحداث السقيفة،
لكي نتناول بشيء من التفصيل:
- أحداث يوم السقيفة.
- شروط
الاستخلاف.
- استخلاف الصديق بين التلميح والتصريح.
-شبهات حول استخلاف الصديق. ثم ننتهي بعد ذلك إلى: .دروس من حياة
الصديق رضي الله عنه أسأل الله أن يعلمنا ما ينفعنا وأن
ينفعنا
بما علمنا...
حبه الصادق لرسول الله صلى الله
عليه وسلم أحبه حبًا خالصًا خالط لحمه ودماءه وعظامه
وروحه حتى أصبح جزءًا لا يتجزأ من تكوينه، والصحابة جميعا أحبوا رسول
الله صلى الله عليه وسلم حبا عظيما فريدًا، ولكن ليس كحب أبي بكر الصديق
رضي الله عنه. هذا الحب الذي فاق حب المال والولد والأهل
والبلد، بل فاق حب الدنيا جميعها. وحب رسول الله صلى الله عليه
وسلم من مكملات الإيمان، فقد روى البخاري ومسلم
رحمهماالله عن
أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
لَايُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ
وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ.
وأبو بكر الصديق رضي الله عنه أشدالناس
إيمانا، فهو إذن أشدالناس حبا للرسول صلى الله عليه وسلم، ففي
حديث
رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسند الإمام أحمد عَنِ ابْنِ عُمَرَ
قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ذَاتَ غَدَاةٍ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، فَقَالَ: رَأَيْتُقُبَيْلَ الْفَجْرِ كَأَنِّي أُعْطِيتُ الْمَقَالِيدَ وَالْمَوَازِينَ،
فَأَمَّا الْمَقَالِيدُ فَهَذِهِ الْمَفَاتِيحُ، وَأَمَّا
الْمَوَازِينُ فَهِيَ الَّتِي تَزِنُونَ بِهَا، فَوُضِعْتُ فِي
كِفَّةٍ وَوُضِعَتْ أُمَّتِي فِي كِفَّةٍ، فَوُزِنْتُ
بِهِمْ، فَرَجَحْتُ،
ثُمَّ جِيءَ بِأَبِي بَكْرٍ، فَوُزِنَ بِهِمْ فَوَزَنَ.
هذا
الحب المتناهي، له دليل من كل موقف من مواقف السيرة تقريبا، ولو تتبعترحلة الصديق رضي الله عنه مع رسول الله صلىالله عليه وسلم لرأيت حبا قلما
تكرر في التاريخ. وتعالوانقلب الصفحات في حادث واحد فقط هو حادث
الهجرة إلى المدينة المنورة:
- لما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم
إلى بيت أبي بكر فيساعة لم يكن يأتيهم فيها، أول ما قاله أبو بكر
قال: فداء له أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر