مراتب الناس فى التوكل
للإمام ابن القيم الجوزية رحمه الله
« التوكل» نصف الدين، والنصف الثاني: «[b]الإنابة»، فإن الدين استعانة وعبادة، فالتوكل: هو الاستعانة، والإنابة: هي العبادة.
ومنزلته:
أوسع المنازل وأجمعها، ولا تزال معمورة بالنازلين، لسعة متعلق التوكل،
وكثرة حوائج العاملين، وعموم التوكل، ووقوعه من المؤمنين والكفار والأبرار
والفجار والطير والوحش والبهائم، فأهل السموات والأرض - المكلفون وغيرهم -
في مقام التوكل وإن تباين متعلق توكلهم
فأولياؤه وخاصته يتوكلون عليه في حصول ما عليه في الإيمان، ونصرة دينه، وإعلاء كلمته، وجهاد أعدائه، وفي محابه، وتنفيذ أوامره.
ودون هؤلاء من يتوكل عليه في استقامته في نفسه، وحفظ حاله مع الله، فارغا عن الناس.
ودون هؤلاء من يتوكل عليه في معلوم يناله منه من رزق، أو عافية، أو نصر على عدو، أو زوجة، أو ولد ونحو ذلك
ودون هؤلاء
من يتوكل عليه في حصول الإثم والفواحش؛ فإن أصحاب هذه المطالب لا ينالونها
غالبا إلا باستعانتهم بالله، وتوكلهم عليه، بل قد يكون توكلهم أقوى من
توكل كثير من أصحاب الطاعات، ولهذا يلقون أنفسهم في المتالف والمهالك
معتمدين على الله أن يسلمهم، ويظفرهم بمطالبهم.
فأفضل التوكل: التوكل في الواجب؛ أعني واجب الحق، وواجب الخلق، وواجب النفس.
وأوسعه وأنفعه: التوكل
في التأثير في الخارج في مصلحة دينية، أو في دفع مفسدة دينية، وهو توكل
الأنبياء في إقامة دين الله، ودفع فساد المفسدين في الأرض، وهذا توكل
ورثتهم.
ثم الناس بعدُ في التوكل على حسب هممهم ومقاصدهم؛ فمن متوكل على الله في حصول الْمُلك، ومن متوكل في حصول رغيف.
ومن
صدق توكله على الله في حصول شيء ناله، فإن كان محبوباً له مرضياً كانت له
فيه العاقبة المحمودة، وإن كان مسخوطاً مبغوضاً كان ما حصل له بتوكله مضرة
عليه، وإن كان مباحا حصلت له مصلحة التوكل دون مصلحة ما توكل فيه إن لم
يستعن به على طاعاته، والله أعلم.
وكثير من المتوكلين يكون مغبونا في
توكله، وقد توكل حقيقة التوكل، وهو مغبون؛ كمن صرف توكله إلى حاجة جزئية
استفرغ فيها قوة توكله، ويُمكنه نيلها بأيسر شيء، وتفريغ قلبه للتوكل في
زيادة الإيمان والعلم ونصرة الدين والتأثير في العالم خيراً، فهذا توكل
العاجز القاصر الهمة، كما يصرف بعضهم همته وتوكله ودعاءه إلى وجع يمكن
مداواته بأدنى شيء، أو جوع يمكن زواله بنصف رغيف، أو نصف درهم، ويدع صرفه
إلى نصرة الدين، وقمع المبتدعين، وزيادة الإيمان، ومصالح المسلمين، والله
أعلم.
من كتاب مدارج السالكين (1/521)[/b]